Skip to main content

حرب الإبادة وعولمة القضية.. من شوارع غزة المدمرة إلى قلب الجامعات الأمريكية 

22 أيار 2025
https://qudsn.co/photo_2025-05-22_18-07-10

خاص - شبكة قُدس: أثبتت عملية قتل موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن اليوم الخميس على يد المناضل إلياس إلياس رودريغيز، الكاتب والباحث الأميركي من مدينة شيكاغو، المتخصص في توثيق سير القادة الأميركيين من أصول أفريقية، أن المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين في خضم حرب الإبادة لم تعد مجرد مواجهة محلية بين شعب أعزل وقوة احتلال عسكرية، بل تحولت إلى تعبير كوني عن نضال الإنسان ضد الظلم والاستعمار، تُخاض معاركه اليوم على أكثر من جبهة: في شوارع غزة تحت القصف، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وداخل أروقة الجامعات الغربية التي لم تشهد منذ ستينيات القرن الماضي زخمًا سياسيًا تضامنيًا مشابهًا لما نراه اليوم. 

في الوقت الذي تتعرض فيه غزة لحرب إبادة معلنة أسفرت حتى مايو 2025 عن استشهاد أكثر من 38 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، تتصاعد في الولايات المتحدة وتحديدًا في كبرى جامعاتها حركة احتجاجية شبابية غير مسبوقة، مطالبة بوقف الدعم الأمريكي غير المشروط لـ"إسرائيل"، وبالانسحاب الأكاديمي والمالي من كل المؤسسات التي ترتبط بمنظومة الاحتلال. ما نشهده ليس مجرد تضامن عاطفي، بل هو تمظهر فعلي لما يمكن تسميته بـ"عولمة القضية"، حيث تنبعث من بين أنقاض غزة شرارة مقاومة فكرية وأخلاقية عابرة للحدود، تعبّر عن يقظة عالمية متنامية تجاه النفاق السياسي الدولي وثنائية المعايير في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان.

تاريخيًا، لم تكن الانتفاضتان الفلسطينيتان الأولى والثانية جزءًا من حركة عالمية، بل كانت أحداثًا محلية تتابع من بعيد، ويتعاطف معها البعض في وقفات رمزية أو بيانات إدانة. لكن التحولات الكبرى في المشهد العالمي، وخصوصًا بعد ثورات التكنولوجيا الرقمية، وبروز حركات العدالة العرقية والاجتماعية، جعلت من فلسطين رافعة لنضالات أوسع. هذه النضالات باتت تتعلق بمفاهيم تفكيك الاستعمار، والعدالة، وحقوق السكان الأصليين، والتحرر من الرأسمالية الاستغلالية، وهي مفاهيم باتت تلقى صدى متزايدًا لدى الأجيال الشابة، خصوصًا في الغرب. 

ومع صعود حركات مثل "حياة السود مهمة" في الولايات المتحدة، بدأ وعي طلابي جديد يتشكل، يربط بين عنف الشرطة الأمريكية بحق السود، والعنف الذي تمارسه "إسرائيل" ضد الفلسطينيين. وعلى الرغم من أن هذا الربط كان في بدايته هشًا ومثيرًا للجدل، إلا أن الجرائم الموثقة في غزة، وصور المجازر الجماعية، والقصف المتواصل للأحياء السكنية، فجرت غضبًا أخلاقيًا لم يعد بالإمكان احتواؤه داخل الخطاب الرسمي.

شهدت الأشهر الماضية تصاعدًا في حجم الاحتجاجات الطلابية، وظهورًا مكثفًا لمخيمات الاعتصام في الحرم الجامعي الأمريكي، بدءًا من جامعة كولومبيا التي نصبت فيها أولى الخيام، لتنتقل الشرارة إلى عشرات الجامعات الأخرى مثل ييل وهارفارد ونيويورك وستانفورد وكاليفورنيا – بيركلي. لم تكن الخيام فقط وسيلة رمزية للتعبير عن التضامن مع غزة، بل كانت إعادة خلق لواقع اللجوء الفلسطيني في قلب مؤسسات النخبة الأمريكية. الطلاب الذين اختاروا النوم في العراء، وتحدي إداراتهم الجامعية، كانوا يستعيدون بتكتيكهم صورة المخيم كرمز سياسي لا فقط إنساني، وكأنهم يقولون: إذا كان الفلسطينيون يُقصفون تحت الخيام، فنحن سننصب خيامنا معهم.

لم تقتصر هذه التحركات على التعبير عن الغضب، بل رافقها خطاب نقدي عميق لمؤسسات التعليم العالي في الغرب، التي لطالما قدمت نفسها كحامية للحرية الأكاديمية والتفكير النقدي، لكنها في واقع الأمر متورطة حتى النخاع في تمويل الاحتلال. مطالب الطلاب كانت واضحة وصريحة: سحب الاستثمارات من الشركات التي تدعم جيش الاحتلال الإسرائيلي، مقاطعة المؤسسات الأكاديمية التي تتعاون مع الاحتلال، وإنهاء الشراكات مع الجامعات الإسرائيلية التي تدعم علنًا الحرب على غزة. هذه المطالب كشفت حجم التناقض بين القيم التي تتغنى بها الجامعات، وبين ممارساتها الواقعية.

في واشنطن العاصمة، امتد هذا الحراك من الجامعات إلى قلب السلطة السياسية. خرج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع، واقتربوا من البيت الأبيض، رافعين الأعلام الفلسطينية، ومرددين شعارات مناهضة للحرب. لم يكن هذا الحشد مجرد تعبير عن التعاطف، بل رسالة سياسية مدوية بأن دعم "إسرائيل" لم يعد يحظى بالإجماع الشعبي في الولايات المتحدة، وخصوصًا بين الجيل الجديد من الشباب والطلبة. 

المثير في هذا الحراك ليس حجمه فقط، بل تركيبته المتعددة. شارك فيه يهود أمريكيون مناهضون للصهيونية، مسيحيون تقدميون، نشطاء من أصول إفريقية وآسيوية ولاتينية، وقدامى محاربين مناهضين للحروب الإمبريالية. ما يجمع هؤلاء ليس بالضرورة ارتباطهم الشخصي بفلسطين، بل إدراكهم أن النظام الذي يقصف غزة، هو ذاته الذي يقمعهم داخليًا، ويعيد إنتاج التفاوتات العرقية والطبقية.

عولمة القضية هنا تأخذ أبعادًا متعددة: جغرافية، سياسية، رمزية، وأخلاقية.

فالمعركة ضد الاحتلال لم تعد تُخاض فقط في الأراضي المحتلة، بل في فضاء أوسع، يشمل الإعلام، والاقتصاد، والثقافة، والجامعات. الأدوات المستخدمة في هذه المواجهة هي نفسها أدوات العولمة: شبكات التواصل الاجتماعي، الفيديوهات القصيرة، الحملات الرقمية، الضغط المالي، والعصيان المدني. هذه الأدوات ساهمت في إيصال الصوت الفلسطيني إلى الملايين حول العالم، وفي فضح الرواية الإسرائيلية أمام جماهير لم تعد تقبل بالخطاب الرسمي الغربي الذي يساوي بين الجلاد والضحية.

بموازاة ذلك، استعادت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات زخمًا عالميًا غير مسبوق. هذه الحركة، التي كانت محاصرة إعلاميًا وقانونيًا في السنوات الماضية، وجدت في حراك الجامعات الغربية بيئة حاضنة جديدة. بات الطلاب يطالبون إداراتهم بالشفافية المالية، ويدققون في قوائم الشركاء والممولين، ويشنون حملات لسحب الاستثمارات من الشركات التي توفر السلاح لإسرائيل أو تبني المستوطنات أو تساهم في مشروع القمع اليومي للفلسطينيين. هذه المعركة، التي تُخاض الآن في مجالس الأمناء وقاعات المحاضرات، تحمل في طياتها دلالات استراتيجية تتجاوز اللحظة الراهنة.

من الناحية الرمزية، شكلت غزة نقطة التحول الكبرى. المشاهد الخارجة من القطاع، من الأطفال تحت الركام، إلى المستشفيات المدمرة، والمدارس المستهدفة، شكلت صدمة ضمير عالمي، دفعت كثيرين إلى إعادة تقييم موقفهم من الصراع. غزة اليوم ليست فقط ضحية، بل ملهمة. باتت تُنظر إليها باعتبارها نموذجًا للصمود، وللقدرة على المقاومة رغم الحصار والجوع والموت. هذه الصورة، التي نقلها الإعلام الشعبي، خلقت حالة وجدانية عالمية لا يمكن تجاهلها.

التحول الأبرز الذي أنتجته حرب الإبادة هو نزع الشرعية الأخلاقية عن "إسرائيل". بعد عقود من ترويجها لنفسها كديمقراطية ليبرالية، أظهرت الحرب على غزة الوجه الحقيقي لدولة استعمارية استيطانية، تستخدم آلة القتل بلا هوادة ضد شعب أعزل. هذا التغير في النظرة لا يعني فقط تغيرًا في المزاج العام، بل في الإمكانيات السياسية المستقبلية. حين يبدأ الرأي العام في التآكل، فإن النخب السياسية ستجد نفسها لاحقًا مجبرة على التغيير.

كل ذلك لا يعني أن العالم الرسمي سيغير موقفه نهائيا من "إسرائيل"، ولكن ما تغير جذريًا هو أن الفلسطينيين لم يعودوا وحدهم، ولم تعد الرواية الصهيونية تمر دون مساءلة. غزة اليوم ليست فقط جبهة قتال، بل محرّك أخلاقي لعالم جديد، يتشكّل في الجامعات، وفي ساحات الاحتجاج، وفي الضمائر. من قلب الدمار خرج صوت يقول إن فلسطين ليست قضية إنسانية فقط، بل قضية تحررية، تُعاش وتُخاض على امتداد الجغرافيا العالمية.

 

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا